فصل: الباب الرابع في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **


  الباب الرابع من المقالة التاسعة في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر الهدن بين ملوك الاسلام وملوك الكفر

  الفصل الأول في أصول تتعين على الكاتب معرفتها

و فيه ثلاثة أطراف الطرف الأول في بيان رتبتها و معناها وذكر ما يرادفها من الألفاظ أما رتبتها فإنها متأخرة - عند قوة السلطان - عن عقد الجزية‏:‏ لأن في الجزية ما يدل على ضعف المعقود له و في الهدنة ما يدل على قوته‏.‏

و أما معناها فالمهادنة في اللغة المصالحة يقال‏:‏ هادنه يهادنه مهادنة إذا صالحه و الاسم الهدنة‏.‏

و هي إما من هدن بفتح الدال يهدن بضمها هدونا إذا سكن ومنه قولهم‏:‏ ‏"‏ هدنة على دخن ‏"‏‏.‏

أي سكون على غلٍ أو تكون قد سميت بذلك لما يوجد من تأخير الحرب بسببها‏.‏

و يرادفها ألفاظ أخرى‏:‏ أحدها الموادعة ومعناها المصالحة أيضاً أخذاً من قولهم‏:‏ عليك بالمودوع‏:‏ يريدون بالسكينة و الوقار فتكون راجعةً إلى معنى السكون‏.‏

و إما أخذاً من توديع الثوب و نحوه‏:‏ و هو جعله في صوان يصونه لأنه بها تحصل الصيانة عن القتال‏.‏

و إما أخذاً من الدعة‏:‏ وهي الخفض والهناء لأن بسببها تحصل الراحة من تعب الحرب و كلفه‏.‏

الثاني - المسالمة و معناها ظاهر‏:‏ لأن بوقوعها يسلم كل من أهل الجانبين من الآخر‏.‏

الثالث - المقاضاة و معناها ‏"‏ المحاكمة مفاعلة من القضاء بمعنى الفصل و الحكم ‏"‏ الرابع - المواصفة سميت بذلك لأن الكاتب يصف ما وقع عليه الصلح من الجانبين‏.‏

على أن الكتاب يخصون لفظ المواصفة بما إذا كانت و المواصفة بما إذا كانت المهادنة من الجانبين و لا شك أن ذلك جارٍ في لفظ الموادعة و المسالمة و المقاضاة أيضاً‏:‏ لأن المفاعلة لا تكون إلا بين آثنين إلا في ألفاظ قليلة محفوظة على ما هو مقرر في علم العربية‏.‏

أما لفظ الهدنة فإنه يصدق أن يكون من جانب واحد بأن يعقد الأعلى الهدنة لمن هو دونه‏.‏

على أنها عند التحقيق ترجع إلى معنى المفاعلة إذ لا تتصور إلا من آثنين‏.‏

و أما في الشرع فعبارة عن صلح يقع بين زعيمين في زمن معلوم بشروط مخصوصة على ما و الأصل فيها أن تكون بين ملكين مسام و كافر أو بين نائبيهما أو بين أحدهما و نائب الآخر‏.‏

و على ذلك رتّب الفقهاء رحمهم الله باب الهدنة في كتبهم‏.‏

قال صاحب ‏"‏ مواد البيان ‏"‏‏:‏ و قد يتعاقد عظماء أهل الإسلام على التوادع و التسالم و آعتقاد المودة و التصافي و التوازر و التعاون و التعاضد و التناصر و يشترط الأضعف منهم للأقوى تسليم بعض ما في يده و التفادي عنه بمعاطفته و الإنقياد إلى أتباعه و الطاعة و الإحترام في المخاطبة و المجاملة في المعاملة أو الإمداد بجيشٍ أو آمتثال الأوامر و النواهي و غيرها مما لا يحص‏.‏

قلت‏:‏ و قد يكون الملكان متساويين في الرتبة أو متقاربين فيقع التعاقد بينهما على المسالمة و المصافاة و الموازاة و المعاونة و كف الأذية و الإضرار و ما في معنى ذلك دون أن يلتزم أحدهما للآخر شيئاً يقوم به أو إتاوةً يحملها إليه و لكل مقام مقال و الكاتب الماهر يوفي كل مقام حقه و يعطي كل فصل من الفصول مستحقه‏.‏

الطرف الثاني في أصل وضعها أما مهادنة أهل الكفر فالأصل فيها قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ‏"‏ الآية وقوله‏:‏ ‏"‏ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ‏"‏‏.‏

و ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه أن قريشاً وجهت إلى النبي صلى اله عليه و سلم وهو بالحديبية - حين صده قريش عن البيت - سهيل بن عمرو فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هات ‏"‏ اكتب ‏"‏ بيننا و بينك كتاباً ‏"‏ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ فقال سهيل‏:‏ ‏"‏ أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو و لكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون‏:‏ ‏"‏ و الله لا نكتب إلا‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اكتب‏:‏ باسمك اللهم ‏"‏ - ثم قال‏:‏ ‏"‏ هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ‏"‏ - فقال سهيل‏:‏ ‏"‏ و الله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك و لكن اكتب‏:‏ محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ على أن تخلوا بيننا و بين هذا البيت فنطوف به ‏"‏ - فقال سهيل‏:‏ ‏"‏ و الله لا تتحدث العرب أنا قد أخذنا ضغطةً و لكن ذلك من العام المقبل فكتب - قال سهيل‏:‏ و على أنه لا يأتيك منا رجل و إن كان على دينك إلا رددته إلينا - قال المسلمون‏:‏ سبحان الله‏!‏ كيف يرد إلى المشركين و قد جاء مسلماً‏!‏ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو الجندل يرسف في قيوده و قد خرج من مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين - فقال سهيل‏:‏ هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي - فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنا لم نقض الكتاب بعد ‏"‏ - قال‏:‏ فوالله ‏"‏ إذاً ‏"‏ لا أصالحك على شيء أبداً - قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فأجزه لي ‏"‏ - ما أنا بمجزيه لك - قال‏:‏ ‏"‏ بلى فافعل ‏"‏ - قال ما أنا بفاعل‏.‏

قال مكرز بن حفص‏:‏ بلى قد أجزناه لك‏.‏

قال أبو جندل‏:‏ أي معشر المسلمين‏:‏ أرد إلى المشركين و قد جئت مسلماً ألا ترون ما قد لقيت و كان قد عذب عذاباً شديداً في الله تعالى‏.‏

قال عمر بن الخطاب‏:‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ ألست نبي الله حقاً قال بلى‏!‏ قلت ألسنا على الحق و عدونا على الباطل قال بلى‏!‏ قلت‏:‏ فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً قال‏:‏ إني رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري ‏"‏ قلت‏:‏ هذا ما أورده البخاري في حديث طويل‏.‏

و الذي أورده أصحاب السير أن الكاتب كان علي بن أبي طالب و أن نسخة الكتاب‏:‏ هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ‏"‏ اصطلحا ‏"‏ على وضع الحرب عن الناس عشر سنين و أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد و عهده دخل فيه و من يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه ‏"‏ و أشهد في الكتاب من المسلمين و المشركين‏.‏

على الصلح رجالاً الطرف الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن قال في ‏"‏ مواد البيان ‏"‏‏:‏ و هذا الفن من المكاتبات له من الدولة محل خطير ومن المملكة موضع كبير و يتعين على الكاتب أن يخلي له فكره و يعمل فيه نظره و يتوفر عليه توفراً يحكم مبانيه و يهذب معانيه‏.‏

و الذي يلزم الكاتب في ذلك نوعان‏:‏ النوع الأول ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام و أهل الكفر وهي الشروط الشرعية المعتبرة في صحة العقد بحيث لا يصح عقد الهدنة مع إهمال شيء منها‏.‏

وهي أربعة شروط‏:‏ الأول - في العاقد‏.‏

و يختلف الحال فيه باختلاف المعقود عليه‏:‏ فإن كان المعقود عليه إقليمياً‏:‏ كالهند و الروم و نحوهما أو مهادنة الكفار مطلقاً فلا يصح العقد فيه إلا من الإمام الأعظم أو من نائبه العام الموفض إليه التحدث في جميع أمور المملكة‏.‏

و إن كان على بعض القرى و الأطراف فلآحاد الولاة المجاورين لهم عقد الصلح معهم‏.‏

الثاني - أن يكون في ذلك مصلحة للمسلمين‏:‏ بأن يكون في المسلمين ضعف أو في المال قلة أو توقع إسلامهم بسب آختلاطهم بالمسلمين أو طمع في قبولهم الجزية من غير قتال أو إنفاق مال‏.‏

فإن لم تكن مصلحة فلا يهادنون بل يقاتلون حتى يسلما أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها‏.‏

الثالث - أن لا يكون في العقد شرط يأباه الإسلام‏:‏ كما لو شرط أن يترك بأيديهم مال مسلم أو أن يرد عليهم أسير مسلم انفلت منهم أو شرط لهم على المسلمين مال من غير خوف على المسلمين أو شرط رد مسلمة إليهم فلا يصح العقد مع شيء من ذلك بخلاف ما لو شرط رد الرجل المسلم أو المرأة الكافرة فإنه لا يمنع الصحة‏.‏

قال الغزالي‏:‏ و قد جرت العادة أن يقول‏:‏ ‏"‏ نهادنكم ‏"‏ على أن من جائكم من المسلمين رددتموه و من جاءنا مسلماً رددناه‏.‏

فإن كان في المسلمين ضعف و خيف عليهم جاز التزام المال لهم دفعاً للشر كما يجوز فك الأسير المسلم إذا عجزنا عن انتزاعه‏.‏

الرابع - أن لا تزيد مدة الهدنة عن أربعة أشهر عند قوة المسلمين و أمنهم و لا يجوز أن تبلغ سنةً بحال و فيما دون سنة و فوق أربعة أشهر قولان للشافعي رضي الله عنه أصحهما أنه لا يجوز أما إذا كان في المسلمين ضعف و هناك خوف فإنه تجوز المهاجنة إلى عشر سنين فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين كما رواه أبو داود في سنته‏.‏

و لا فلو أطلق المدة فالصحيح من مذهب الشافعي أنها فاسدة وقيل‏:‏ إن كانت في حال ضعف المسلمين حملت على عشر سنين و إن كانت في حال القدرة‏:‏ فقد قيل تحمل على الأقل‏:‏ و هو أربعة أشهر و قيل على الأكثر‏:‏ و هو ما يقارب السنة‏.‏

و لو صرح بالزيادة على ما يجوز عقد الهدنة عليه‏:‏ فإن زاد على أربعة أشهر في حال القوة أو على عشر سنين في حال الضعف صح في المدة المعتبرة و بطل في الزائد فإن احتيج على الزيادة في العشر عقد على عشر ثم عشر ثم عشر قبل تقضي الأولى قاله الفوراني و غيره من أصحابنا الشافعية‏.‏

و ذهب أصحاب مالك رحمهم الله إلى أن مدتها غير محدودة بل يكون موكولاً إلى اجتهاد الإمام و رأيه‏.‏

النوع الثاني ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر و الإسلام و عقود الصلح الجارية بين زعماء المسلمين و هي ضربان الضرب الأول الشروط العادية للهدنة الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدم و ليس لها حد يحصرها و لا ضابط يضبطها بل بحسب ما تدعو الضرورة إليه في تلك الهدنة بحسب الحال الواقع فمن ذلك - أن يشترط عليه أن يكون لوليه موالياً و لعدوه معادياً و لمسالمه مسالماً و لمحاربه محارباً و لا يواطيء عليه عدواً و لا يوقع عليه صلحاً و لا يوافق على ما يقدح في أمره و لا يقبل سؤال سائل و لا بذل باذل و لا رسالة مراسل مما يخالف الاتفاق الجاري و الأخذ على يد من سعى في نقض الصلح و نكث العهد إن كان من أهل طاعته و المقابلة إن كان من المخالفين له و أنه إذا جنى من أهل مملكتهم جان كان عليه إحضالاه أو الأخذ منه بالجناية‏.‏

ومن ذلك - أن يشترط عليه أن يكف عن بلاده و أعماله و متطرف ثغوره و شاسع نواحيه - أيدي الداخلين في جماعته و المنضمين إلى حوزته و لا يجهز لهجيشاً و لا يحاول لها غزواً و لا يبدأ أهلها بمنازعة و لا يشع لهم في مقارعة و لا بتناوبهم بمكيدة ظاهرة أو باطنة و لا يعاملهم بأذية جلية و لا خفية و لا يطلق لأحد ممن ينوب عن في إمارة جيشه و من ينسب إلى جملته و يتصرف على إرادته - عناناً إلى شيءٍ من ذلك بوجهٍ من الوجوه و لا سبب من الأسباب و أن لا يجاوز حدود مملكته إلى المملكة الأخرى بنفسه و لا بعسكر من عساكره‏.‏

و من ذلك - أن يشترط عليه أن يفرج عليه عمن هو في حوزته ممن أحاطت به ربقة الأسر و يمكنهم من المسير إلى بلادهم‏:‏ بأنفسهم و خدمهم و عيالهم و أتباعهم و أصناف أموالهم في أتم حراسةٍ و أكمل خفارة دون كلفة و لا مؤونة تلحقهم على إطلاقهم و نحو ذلك‏.‏

و من ذلك - أن يشترط عليه مالاً يحمله إليه في كل سنة أو أ يسلم إليه ما يختاره‏:‏ من حصون و قلاع و أطراف و سواحل مما وقع الاستيلاء عليه من بلاد المسلمين أو أحب انتزاعه أو استضافته من بلاد من يهادنه من ملوك الكفر و أن يبقي من بها من أهلها و يقررهم فيها بحرمهم وأولادهم و مواشيهم و أزو ادهم و سلاحهم و آلاتهم دون أن يلتمس عن ذلك أو عن شيء منه مالاً أو يطلب عنه بدلاً و ما ينخرط في هذا السلك‏.‏

و من ذلك - أن يشترط عليه عدم التعرض لتجار مملكته و المسافرين من رعيته براً و بحراً بنوع من أنواع الأذية و الإضرار في أنفسهم و لا في أموالهم و للمجاورين للبحر عدم ركوب المراكب الحربية التي لا يعتاد التجار لركوب مثلها‏.‏

و من ذلك - أن يشترط عليه إمضاء ما وقعت عليه المعاقدة و أ لا يرجع عن ذلك و لا عن شيء منه و لا يؤخر شيئاً عن الوقت الذي ‏"‏ اتفق عليه ‏"‏‏.‏

و من ذلك - أن يشترط عليه أنه إذا بقي من مدة الهدنة مدة قريبة مما يحتاج إلى التعبيء فيه أن يعلمه بما يريد من مهادنة أو غيرها‏.‏

و من ذلك - أن يشترط عليه أنه إذا انقضى أمد الهدنة على أحد من الطائفين و هو في بلاد الآخرين أن يكون له الأمن حتى يلحق ما منه‏.‏

و من ذلك - أن يشترط مالاً يحمله إليه في الحال أو في كل سنة أو حصونا أو بلاداً يسلمها من بلاده أو مما يغلب عليه من بلاده مهادن إلى غير ذلك من الأمور التي يجري عليها الاتفاق مما لا تحصى كثرةً‏.‏

الضرب الثاني مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة تحير أوضاعها و ترتيب قوانينها و إحكام معاقدها و ذلك باعتماد أمور‏:‏ منها - أن يكتب الهدنة فيما يناسب الملك الذي تجري الهدنة بينه و بين ملكه و لم أر من تعرض في الهدن لمقدار قطع الورق و إن كثرت كتابتها في الزمن المتقدم بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الفرنج كما سيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

و الذي ينبغي أن يراعى في ذلك مقدار قطع الورق الذي يكاتب فيه الملك الذي تقع الهدنة معه‏:‏ من قطع العادة أو الثلث أو النصف‏.‏

و منها - أن يأتي في ابتدائها ببراعة الاستهلال‏:‏ إما بذكر تحسين موقع الصلح و الندب إليه و يمن عاقبته أو بذكر السلطان الذي تصدر عنه الهدنة أو السلطانين المتهادين أو الأمر الذي ترتب عليه الصلح و ما يجري هذا المجرى مما يقتضيه الحال و يستوجبه المقام‏.‏

و منها - أن يأتي بعد التصدير بمقدمة يذكر فيها السبب الذي أوجب الهدنة و دعا إلى قبول الموادعة‏.‏

فإن كانت الهدنة مع أهل الكفر احتج للإجابة إليها بالائتمار بأمر القرآن و الانقياد إليه حيث أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمطاوعة على الصلح و الإجابة إلى السلم بقوله‏:‏ ‏"‏ و إن جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل على الله ‏"‏ و ما وردت به السنة من مصالحته صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية و ذكر ما سنح له من آيات الصلح و أحاديثه و ما جرى عليه الخلفاء الراشدون من بعده و كفهم عن القتال وقوفاً عند ما حدّ لهم و أنه لولا ذلك لشرعوا الأسنة إلى مخايفيهم في الدين و ركضوا الجياد إلى جهاد من يليهم من الملحدين‏.‏

و إن كان الصلح بين المسلمين احتج بنحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ‏"‏ و بأحاديث التحذير من تقاتل المسلمين كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا التقى المسلمان بسيفهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل و المقتول في النار ‏"‏ و ما يجري هذا المجرى‏.‏

و منها - أن يراعي المقام في تبجيل المتهادين أو أحدهما بحسب ما يقتضيه الحال و وصف كل واحد منهما بما يليق به‏:‏ من التعظيم أو التوسط أو انحطاط الرتبة بحسب المقام و يجري على حسب ذلك في الشدّة و اللين‏.‏

فإن كانت الهدنة بين متكافئين سوّى بينهما في التعظيم و جرى بهما في الشدّة و اللين على حدٍّ واحد إلا أن يكون أحدهما أسنّ من الآخر فيراعي للأسنّ ما يجب على الحدث من التأدب معه و يراعي للحدث ما يجب له على الكبير من الحنوّ و الشّفقة‏.‏

وإن كانت الهدنة من قوي لضعيفٍ أخذ في الاشتداد آتياً بما يدل على علوّ الكلمة و انبساط القدرة و حصول النصرة و استكمال العدد و ظهور الأيد و وفور الجند و قصور الملوك عن المطاولة و عجزهم عن المحاولة و نحو ذلك مما ينخرط في هذا السلك لا سّيما إذا كان القوي مسلماً و الضعيف كافراً فإنه يجب الازدياد من ذلك و ذكر ما للإسلام من العزة و ما توالى له من النصرة و ذكر الوقائع التي كانت فيها نصرة المسلمين على الكفار في المواطن المشهورة و الأماكن المعروفة و ما في معنى ذلك‏.‏

و إن كانت الهدنة من ضعيف لقوي أخذ في الملاينة بحسب ما يقتضيه الحال مع إظهار الجلادة و تمسك القوة خصوصاً إذا كان القوي المعقود معه الهدنة كافراً‏.‏

و إن شرط له مالاً عند ضعف المسلمين للضرورة أتى في كلامه بما يقتضي أن ذلك رغبة في الصلح المأمور به لا عن خور طباعٍ و ضعف قوة إذ الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون والله معكم ‏"‏‏.‏

ومنها - أن يتحفظ من سقط يدخل على الشريعة نقيصة إن كانت المهادنة مع أهل الكفر أو يجر إلى سلطانه و هيصةً إن كانت بين مسلمين و يتحذر كل الحذر من خلل يتطرق إليه‏:‏ من إهمال شيء من الشروط أو ذكر شرط فيه خلل على الإسلام أو ضرر على السلطان أو ذكر لفظ مشترك أو معنى ملتبس يوقع شبهة توجب السبيل إلى التأول و إن يأخذ المأخذ الواضح الذي لا تتوجه عليه معارضة و لا تتطرق إليه مناقضة و لا يدخله تأويل‏.‏

و منها - أن يبيّن أن الهدنة وقعت بعد استخارة الله تعالى و تروية النظر في ذلك و ظهور الخير فيه و مشاورة ذوي الرأي و أهل الحجى و موافقتهم على ذلك‏.‏

و منها - أن يبين مدة الهدنة‏.‏

فقد تقدّم أن الصحيح من مذهب الشافعي أنه إذا لم تبين المدة في مهادنة أهل الكفر فسدت الهدنة‏.‏

قال في ‏"‏ التعريف ‏"‏‏:‏ و قد جرت العادة أن يحسبها مدة سنين شمسية فيحرّر حسابها بالقمرية‏.‏

و يذكر سنين و أشهر و أياماً و ساعات حتى يستوفي السنين الشمسية المهادن عليها‏.‏

أما في عقد الصلح بين مسلمين فإنه لا يشترط ذلك بل ربما قالوا‏:‏ إن ذلك صار لازماً للأبد حتى في الولد و ولد الولد‏.‏

و منها - أن يبين أن الهدنة وقعت بين الملكين أنفسهما أو بين نائبيهما أو بين أحدهما و نائب الآخر و يستوفي ما يجب لكل قسم منها‏.‏

فإن كانت بين الملكين أنفسهما بغير واسطة بين ذلك ذكر ما أخذ عليهما من العهود و المواثيق و الإيمان الصادرة من كل منهما و ذكر ما وقع من الإشهاد بذلك عليهما و ما جرى من ثبوت حكمه إن جرى فيه ثبوت و نحو ذلك‏.‏

و إن كانت بين المكتوب عنه و نائب الآخر بين ذلك و تعرض إلى المستند في ذلك‏:‏ من حضور كتاب من الملك الغائب بتفويض الأمر في ذلك إلى نائبه و أنه وصل على يده أو يد غيره و الإشارة إلى أنه معنون بعنوانه مختوم بختمه المتعارف عنه أو وكالة عنه‏.‏

و يتعرض إلى قيام البينة بها و ثبوتها بمجلس الحكم و نحو ذلك من المستندات‏.‏

و أن بين نائبين بين ذلك و ذكر مستند كل نائب منهما على ما تقدم ذكره‏.‏

و يتعرض إلى النائب في ذلك قام فيه باختياره و طواعيته لا عن إكراه و لا إجبار و لا قسرً و لا غلبة بل لما رأى لنفسه و لمستنيبه في ذلك من المصلحة و الحظ و إن كتاب الهدنة قريء عليه و بين له و منها - أن يتعرض إلى ما يجري من التحليف في آخرها‏:‏ على الوفاء و عدم النكث و الإخلال بشيء من الشروط أو الخروج عن شيء من الإلتزامات أو محاولة التأويل في شيء من ذلك أو السعي في نقضه أو في شيء منه و ما في معنى ذلك‏:‏ فإن كانت بين ملكين تعرض إلى تحليف كل منهما على التوفية بذلك‏.‏

و إن كانت بين أحدهما و نائب الآخر حلف الملك كما تقدم و ستأتي صورة الحلف الذي يقع في الهدن في الكلام على الأيمان فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

و منها - أن يحرر أمر التاريخ بالعربي و ما يؤرخ به في مملكة الملك المهادن‏:‏ من السرياني و الرومي و غيرهما‏.‏

قال في ‏"‏ التعريف ‏"‏‏:‏ و لهم عادة أن يحسبوها مدة سنين شمسية فيحرر حسابها بالقمرية و يذكر سنين و أشهر و أياماً و ساعات حتى يستكمل السنين الشمسية المهادن عليها‏.‏

و قد تقدم في الكلام على التاريخ من المقالة الثالثة كيفية معرفة التواريخ و استخراجها‏.‏

ومنها - أن يقع الإشهاد على كل من المتعاقدين بذلك و لا بأس بإثبات ذلك‏.‏

وقد جرت العادة أنه يشهد على كل ملك جماعة من أهل دولته ليقضى على ملكهم بقولهم و إن كان مخالفاً في الدين‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أشهد على مصلحته مع قريش رجالاً من المسلمين و رجالاً من المشركين ‏"‏‏.‏

و ربما طلب النائب عن الملك الغائب إحضار نسخة مهادنة من جهة مستنيبه على ما وقع به العقد مشمولة بخط الكتاب مشهوداً عليه فيها بأهل مملكته أو تجهز إليه نسخة يكتب عليها خطه ويشهد عليه فيها أهل مملكته‏.‏

والغالب الاكتفاء بالرسل في ذلك‏.‏